كان صرحا ثم هوى
ربما يكتشف التاريخ حقائق أخرى غير تلك التي روجت على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن خاصة في ما يتعلق بموضوع المهدي بنبركة
العديد من الناس قتلوا ظلما وعدوانا من طرف خصومهم السياسيين ولم يلتفت إليهم أحد على الإطلاق..
الكثير من العائلات شردت والعديد من الأسر فقدت معيلها بسبب مواقف سياسية معينة .
مؤرخ المملكة عبد الوهاب بن منصور كتب عن كل شيء يتعلق بتاريخ المغرب وتمادى في كتاباته التاريخية حتى لا مس العديد من الحقائق المرة في مقدمتها كتابه القيم"مشكلة الحماية القنصلية بالمغرب" حيث سطر في صفحاته حقائق مذهلة عن المحميين المغاربة الذين كانوا يلجأون للسفارات الأجنبية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) للحصول على بطاقة (محمي) وبمجرد حصول أحدهم على هذه البطاقة ، وطبقا لاتفاقيات غير مفهومة البنود بين الدولة المغربية وهذه السفارات، فإن حامل بطاقة (محمي)يصبح محصنا من المتابعات القضائية المغربية حتى لو سرق، واعتدى على أملاك الناس أو أزهق أرواحهم ..وكتاب الأستاذ بن منصور هذا يستحق أن يدرس في مناهج التعليم العالي على الأقل لمعرفة حقبة معينة من تاريخ المغرب العميق..
لكن السيد بن منصور مع الأسف لم يكلف نفسه عناء الكتابة عن فترة قريبة من تاريخ المغرب ..هي الفترة الممتدة من 1956 إلى أوائل الستينيات.
المراجع القليلة جدا المتوفرة ربما لا تفي بالغرض المطلوب.. لأن القليلون جدا هم الذين دونوا أحداثا بعينها شاهدوها أو عاشوها .. أو تعرضوا خلالها لمحن ومآسي مازالت تؤرق مضاجعهم لحد الآن..ولم يلتفت إليهم أحد.
تقول المصادر التي أرخت لتلك الفترة المظلمة والحالكة من تاريخ المغرب السياسي أن مجازر وقعت ..وأرواح أزهقت ..ونفوس لفظت ..ومآسي جرت..ويحق لنا اليوم أكثر مما مضى أن نتساءل : من المسئول..أو المسئولين عن ما جرى ؟ و إلا سنقتنع بمنطق محاكمة مجرمي سوء أربعاء الغرب سنة56، حيث عللت المحكمة حكمها ب" أن هذه مجزرة بلا جزارين ومذبحة بلا ذباحين"؟
العديد من رجال المقاومة وجيش التحرير وكذلك العلماء والسياسيين تمت تصفيتهم على يد مقاومين وسياسيين آخرين ، والذين استشهدوا في خلال تلك الفترة إنما استشهدوا لأجل أفكار وقضايا كانوا يؤمنون بها ويدافعون عنها، والذين قتلوهم إنما كانوا يخالفونهم الرأي لا غير وكان الصراع على أشده بين قوم كانوا يسعون إلى السيطرة على مقاليد الحكم بالقوة والحيلة، وبين أناس كانوا بالمقابل يناضلون من اجل حرية البلد واستقلاله وكرامة أبنائه.
جمعيات حقوق الإنسان المتواجدة الآن على الساحة الوطنية، ليس مطلوبا منها أن تنتصر لفئة على حساب أخرى، انطلاقا من أيديولوجيات محددة في أجندة هذه الجمعيات، وإنما مطلوب منها أن تنتصر للإنسان، أي إنسان مهما كانت عقيدته أو إيدلوجيته أو فكره..وليس مطلوبا من هذه الجمعيات أن تستعرض عضلاتها في الشارع حينما يتعلق الأمر بشخص تعتقد هذه الجمعيات أنه قديسا، بينما لا تأبه أبدا للأرواح التي أزهقت ،لأن أصحاب هذه الأرواح يتقاطعون معها في الإيديلوجيا والتفكير.
سمعنا وتتبعنا أنشطة هذه الجمعيات خلال تعاملها مع ملفات محددة وأشخاص محددين خاصة فيما يسمونه بسنوات الرصاص وهو مصطلح فضفاض لا يعني الحقيقة، لأن من يتمعن في هذا التعبير يخيل إليه أن تلك السنوات المقصودة بذات التعبير إنما كانت سنوات حرب بينما هي كانت سنوات صراع وهذا هو المصطلح الملائم للتعريف بما جرى في خلال تلك السنوات الماضية، وهي في الحقيقة مازالت مستمرة لحد الآن وإن اختلفت وسائل وطرق الصراع.
فيما يسمى ب:سنوات "الرصاص" كان الصراع يجري بين جهة تحكم البلد وجهات تسعى كل منها بطرقها الخاصة إلى الاستلاء على مقاليد الأمور، ولاشك أن تلك الجهات لو قدر لها أن تصل إلى الحكم لفعلت لخصومها مالم يفعلوه بها في تلك السنوات..
ضباط وقادة من الجيش حاولوا الوصول إلى الحكم على ظهر الدبابات وفوهات المدافع..وهم كانوا يعرفون حق المعرفة ما هو المصير الذي ينتظرهم في حالة فشلهم في مشروعهم الانقلابي، وفي المقابل كانوا يخططون لما سيفعلونه في حالة نجاح المشروع العسكري القاتل..وأنا لا أتصور أن الانقلابيين لو نجحوا ..أنهم كانوا سيمدون إلى خصمهم (الملك) قطع من الشوكلاته ، بل كانوا سيذيقونه العذاب ويشتتون شمل أسرته ويغيرون مجرى التاريخ بأودية من الدماء والآهات..
في الجهة الأخرى كانت الحركات اليسارية تلقن أتباعها مصطلحات "الثورة" وبالتالي كانت تهيء هؤلاء الأتباع للتعايش مع نظام جديد إسمه "الاشتراكية"وكل هذه الحركات العسكرية والمدنية باءت مشاريعها الانقلابية والثورية بالفشل..ومع الأسف الشديد فإن العديد منهم تآلفوا اليوم مع الوضع القائم ويتقلدون مناصب ووظائف متميزة في الدولة، وبينما كانوا بالأمس يرفعون شعار السرية إنطلاقا من فكرة آمنوا بها هي أنه لا يمكن العمل في الشرعية مع نظام غير شرعي..لكنهم الآن انقلبوا 180درجة مائوية.
وللذين لا يعلمون ـو لا يريدون أن يعلموا ان الجينرال أوفقير كان بدوره يساريا على اعتبار أنه تأثر بأفكارهماوشي كوكغ وكان يضع التجربة الصينية مثله الأعلى
*عودة إلى السطر:
الرجة القائمة هذه الأيام على خلفية تصريحات عمدة فاس والمتعلقة بالمهدي بن بركة، ما كان لها أن تقوم على الإطلاق لو أن الطرف الآخر التزم بشيء من الهدوء، وكان بإمكان المتباكين على المهدي أن يردوا على تصريحات شباط بشيء من الحكمة والرزانة بدل هذه الضجة التي ملؤوا بها مساحات وأعمدة الصحف ولم يسلم منها حتى الشارع، كان بإمكان المتباكين والناعقين أن يطالبوا حميد بالدليل وإذ فشل في إثبات الأدلة كان عليهم حينها فقط أن يلجأوا إلى القضاء..لكنهم يعرفون حق المعرفة أن صاحب التصريح لم يأت بشيء من عنده، وكل ما قاله مدون في سجلات التاريخ، فلماذا يريدون طمس هذا التاريخ؟ إننا إذا أردنا المصالحة حقيقة مع أنفسنا ومع من حولنا ، يجب أن نقر بما تم تدوينه –رغم ضآلته –عن فترة الخمسينيات المظلمة.
ليس حميد شباط هو الأول الذي تطرق لهذا الموضوع بل سبقه الكثيرون ومن جملة ذلك أتذكر الضجة التي أحدثها تصريح المجوبي أحرضان لأسبوعية الأيام سنة2003، واتهم خلالها المهدي بن بركة بأنه كان وراء تصفية الشهيد محمد بن عبد الله الملقب ب"(عباس المسعدي من قبل أمير المجاهدين محمد بن عبد الكريم الخطابي) وقامت حينها قيامة صغيرة ثم هدأت بسرعة.
قبل ذلك نقرأ في مؤلفات عديدة (نسرد مراجعها في هامش هذا المقال) عن هذه الحقبة المظلمة والمؤلمة ما فعله القوم بالوطنيين المخلصين الذين كانوا يقاومون بإيمان شديد سياسة الديكتاتورية التي كان روادها يسعون إلى إقامة نظان حزبي أحادي.
المصادر التاريخية المشار إليها تنسب كل ماجرى لحزب الاستقلال الذي ينتمي إليه شباط ، لكن حقائق ظهرت تفيد بأن الجناح الراديكالي في حزب الاستقلال آنذاك هو من كان وراء عمليات الاختطافات والاعتقالات وممارسات التعذيب التي تعرض لها الوطنيون في معتقل دار بريشة الرهيب وماجرى في سوق اربعاء الغرب ومعتقل الساتيام بالدار البييضاء.
لقد كانت سنوات 56-59 مظلمة وفائمة، ولم تهدأ عاصفة الاغتيالات إلا حينما انفصل الجناح الراديكالي عن الجناح المعتدل في حزب الاستقلال وحينما تم الإعلان عن تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة عبد الله ابراهيم وكان من قادته أيضا شهيد الاتحاديين بن بركة..
حينها فقط توقفت إسالة الدماء، في تلك الأثناء أعلن جناح علال الفاسي براءته من الدماء ملصقا تهمة جريانها لفريق المهدي..
إن تصريحات شباط لم تخرج عن سياق التأريخ، لكن الذين ألفوا "الفمفمة" والولولة ،بدل أن يعترفوا بالحقائق أو يصمتوا استمروا في "فمفمتهم وولولتهم" وراحوا يقذفون شباط بكل ما ساء من الكلام، لكن الحقيقة على مايبدو قد أطلت هذه المرة شيوخهم قوية، خاصة وأن من أطلقها لا يعير اهتماما لما يثار حوله من زوابع.. ولاشك أنه سيجد حوله من يساعده على كشف المزيد من الحقائق..
منذ بدأنا نميز الحروف عن بعضها ونحن نلقن تاريخيا مغلوطا وحقائق مقلوبة وقد آن الأوان لتصحيح لفائدة الأجيال الحالية واللاحقة، إن الحقيقة لا يمكن أن تكون حقيقة إلا إذا أعلنت كاملة غير منقوصة.
كان المهدي يسعى بكل ما أوتي من دهاء وفطنة إلى السيطرة على مقاليد الحكم في هذا البلد بأية وسيلة ، وهذه الحقائق موجودة الآن على الأرض ، لكن الذين تعودوا على سماع الأحاجي والقصص من شيوفهم هم الذين يحجمون عن قراءة التاريخ طاعة منهم عمياء لهؤلاء الشيوخ الذين تعودوا على تلقين الأباطيل لتلامذتهم . نكتفي الآن بهذه الإطلالة على تاريخ قديس اليسار المهدي بن بركة على أمل مواصلة ، لكننا حتما سنواصل كشف الحقائق مفصلة في وقتها ولكل حادث حديث.
عبد النبي الشراط (مقال جديد)
0 Response to "حقائق من التاريخ المنسي"
إرسال تعليق